كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجمع العلماء على أن من مَسَح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكّدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وامسحوا رؤوسكم.
وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمّم في قوله: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع.
وقيل: إنما دخلت لتُفيد معنى بديعًا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولًا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحًا به؛ فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارًا من غير شيء على الرّأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحًا به وهو الماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في اللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه:
كنَوَاحِ رِيش حَمَامة بَخْدِيَّة ** ومسحتِ باللِّثتين عَصْفَ الإثمد

واللثة هي الممسوحة بعَصْف الإثمد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر:
مِثْل القَنَافِذ هَدّاجون قد بَلَغت ** نَجران أو بلغت سَوْءاتهم هَجَرُ

فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء.
وقال الشافعي: احتمل قول الله تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} بعض الرأس ومسح جميعه فدلّت السُّنّة أن مسح بعضه يُجزىء، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مَسحَ بناصِيته؛ وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عزّ وجلّ: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} في التّيمّم أيُجزِىء بعض الوجه فيه؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلابد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذا فرق ما بينهما.
أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لاسيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مَظِنّة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقّات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية: حتى مسح على العِمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المُغيِرة بن شُعْبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبًا لما مسَحَ على العِمامة؛ والله أعلم.
التاسعة وجمهور العلماء على أن مَسْحة واحدة موعِبة كاملة تجزىء.
وقال الشافعي: يمسح رأسه ثلاثًا؛ ورُوي عن أنس وسعيد بن جبيْر وعطاء.
وكان ابن سِيرين يمسح مرتين قال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرّةً؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثًا، قالوا فيها: ومَسَح برأسِه ولم يذكروا عددًا.
العاشرة واختلفوا من أين يبدأ بمسحه؛ فقال مالك: يبدأ بمقدَّم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخّره، ثم يردّهما إلى مقدّمه؛ على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم؛ وبه يقول الشافعيّ وابن حنبل.
وكان الحسن بن حيّ يقول: يبدأ بمؤخر الرأس؛ على حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْرَاء: وهو حديث يختلف في ألفاظه، وهو يدور على عبد الله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم؛ أخرجه أبو داود من رواية بِشر بن المُفَضَّل عن عبد الله عن الرُّبَيْع، وروى ابن عِجْلان عنه عن الرّبَيْع: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأ عندنا فمسح الرأس كله من قَرْن الشعر كل ناحية بمنصَبّ الشعر، لا يحرّك الشعر عن هيئته»؛ ورُويت هذه الصفة عن ابن عمر، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه.
وأصَحّ ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد؛ وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدّم الرأس.
ورُوي عن إبراهيم والشعبيّ أنهما قالا: أيّ نَواحِي رأسك مسحت أجزأ عنك.
ومسح ابن عمر اليافُوخَ فقط.
والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معًا، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة.
واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عمّ ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزىء، وهو قول سفيان الثوريّ؛ قال سفيان: إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه.
وقيل: إن ذلك لا يُجزِىء؛ لأنه خروج عن سنّة المسح وكأنه لَعِبٌ.
إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يُختلف في الإجزاء.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يُجزِىء مسح الرأس بأقلّ من ثلاث أصابع؛ واختلفوا في ردّ اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأُولى فرضٌ بالقرآن فالجمهور على أنه سنة.
وقيل: هو فرض.
الحادية عشرة فلو غَسَل متوضِّىء رأسه بدل المسح فقال ابن العربي: لا نعلم خلافًا أن ذلك يُجزئه، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشِي في الدرس عن أبي العباس ابن القاصِّ من أصحابهم قال: لا يُجزئه، وهذا توَلُّج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمّه الله في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7] وقال تعالى: {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} [الرعد: 33] وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أُمِر وزيادة.
فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبَّد به؛ قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل؛ وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح.
الثانية عشرة وأما الأذنان فهما من الرأس عند مالك وأحمد والثوريّ وأبي حنيفة وغيرهم، ثم اختلفوا في تجديد الماء؛ فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديدًا سوى الماء الذي مَسَح به الرأس، على ما فَعَل ابن عمر؛ وهكذا قال الشافعيّ في تجديد الماء، وقال: هما سنّة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس؛ لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج؛ وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعيّ.
وقال الثوريّ وأبو حنيفة: يُمْسَحان مع الرأس بماء واحد؛ ورُوي عن جماعة من السلف مثلُ هذا القول من الصحابة والتابعين.
وقال داود: إن مسح أُذنيه فحسن، وإلا فلا شيء عليه؛ إذ ليستا مذكورتين في القرآن.
قيل له: اسم الرأس تضمّنهما كما بيّناه.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائيّ وأبي داود وغيرهما «بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه في صِمَاخَيه»، وإنما يدل عدمُ ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغَسْل الوجه واليدين، وثبتت سُنّة مسحهما بالسنة.
وأهل العلم يكرهون للمتوضِّىء ترك مسح أُذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال: إن ترك مسح أُذنيه لم يُجزه.
وقال أحمد: إن تركهما عمدًا أحببتُ أن يُعيد.
ورُوي عن عليّ بن زياد من أصحاب مالك أنه قال: من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدًا أعاد؛ وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف ولا له حظّ من النظر، ولو كان كذلك لم يُعرف الفرض الواجب من غيره؛ والله أعلم.
احتج من قال: هما من الوجه بما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره» فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه.
وفي مصنف أبي داود من حديث عثمان: فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
احتج من قال: يُغسل ظاهرهما مع الوجه، وباطنهما يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس؛ فما واجهك من الأذنين وجب غسله؛ لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس، وهذا تردّه الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والرُّبَيِّع وغيرهم.
احتج من قال: هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصُّنَابِحي: «فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه» الحديثَ أخرجه مالك.
الثالثة عشرة؛ قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} قرآ نافع وابن عامر والكسائي {وَأَرْجُلَكمْ} بالنصب؛ وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ {وَأَرْجُلُكُمْ} بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة {وَأَرْجُلِكُم} بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون؛ فمن قرأ بالنصب جعل العامل {أَغْسِلُوا} وبنى على أن الفرض في الرِّجلين الغَسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافّة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، واللازم من قوله في غير ما حديث، وقد رأى قومًا يتوضئون وأعقابهم تلُوح فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء» ثم إن الله حدَّهما فقال: {إلَى الْكَعْبين} كما قال في اليدين {إلَى المْرَافِق} فدّل على وجوب غسلهما؛ والله أعلم.
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رَدّ ذلك سوى الطَبري من فقهاء المسلمين، والرّافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض.
قلت: قد رُوي عن ابن عباس أنّه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.
وروى أن الحجاج خطب بالأهْوَاز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فسمع ذلك أنس ابن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج؛ قال الله تعالى: {وامسحوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ} قال: وكان إذا مسح رجليه بلّهما، وروى عن أنس أيضًا أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل.
وكان عِكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.
وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح؛ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلًا، ويُلغي ما كان مسحًا.
وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين.
وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين؛ قال النحاس؛ ومن أحسن ما قيل فيه؛ أن المسح والغسل واجبان جميعًا؛ فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين.
قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرّجلين هو الغسل.
قلت: وهو الصحيح؛ فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل؛ قال الهروي: أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الدَّاريّ عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلًا ويكون مسحًا، ومنه يقال: للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تَمسَحّ؛ ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغَسل؛ بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغَسل، والتوعّد على ترك غَسلها في أخبار صحاح لا تُحصى كثرة أخرجها الأئمة؛ ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرّجلين، التقدير؛ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وأمسحوا برءوسكم؛ فلما كان الرأس مفعولًا قبل الرِّجلين قُدَّم عليهما في التلاوة والله أعلم لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدّمه عليهما في صفة التطهير.